سورة الأحزاب - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


ولما أكد سبحانه وجوب الصدع بكل أمره وإن عظمت مشقته وزادت حرقته من غير ركون إلى مؤالف موافق، ولا اهتمام بمخالف مشاقق، اعتماداً على تدبيره، وعظيم أمره في تقديره، ذكرهم بدليل شهودي هو أعظم وقائعهم في حروبهم، وأشد ما دهمتهم من كروبهم، فقال معلماً أن المقصود بالذات بما مضى من الأوامر الأمة- وإنما وجه الأمر إلى الإمام ليكون أدعى لهم إلى الامتثال فإن الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم تكويني بمنزلة ما يقول الله تعالى له {كن} فحقيقة الإرادة لا الأمر، والأمر للذين آمنوا تكفيلي. وقد يراد منهم ما يؤمرون به وقد لا يراد، وللناس احتجاجي أي تقام به عليهم الحجة، ومن المحقق أن بعضهم يراد منه خلاف المأمور به: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان، عبر به ليعم المنافقين {اذكروا} ورغبهم في الشكر بذكر الإحسان والتصريح بالاسم الأعظم فقال: {نعمة الله} عبر بها لأنها المقصودة بالذات والمراد إنعام الملك الأعلى الذي لا كفوء له {عليكم} أي لتشكروه عليها بالنفوذ لأمره غير ملتفتين إلى خلاف أحد كائناً من كان، فإن الله كافيكم كل ما تخافون ثم ذكر لهم وقت تلك النعمة زيادة في تصويرها ليذكر لهم ما كان فيه منها فقال: {إذ} أي حين {جاءتكم} أي في غزوة الخندق حين اجتمعت عليكم الأحزاب وكان النبي صلى الله عليه وسلم ضربه حين سمع بهم بمشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه على جانبي سلع من شماليه، وخطه وقطع لكل عشرة رجال أربعين ذراعاً، وكانوا ثلاثة آلاف، فكان الخندق اثني عشر ألف ذراع {جنود} وهم الأحزاب من قريش ومن انضم إليه من الأحابيش في أربعة آلاف يقودهم أبو سفيان ابن حرب، ومن انضم من قبائل العرب من بني سليم يقودهم أبو الأعور، ومن بني عامر يقودهم عامر بن الطفيل، ومن غطفان يقودهم عيينة بن حصن، ومن بني أسد يقودهم طليحة بن خويلد، ومن أسباط بني إسرائيل من اليهود ومن بني النضير ورؤساهم حيي بن أخطب وابنا أبي الحقيق، وهم الذين جمعوا الأحزاب بسبب إجلاء النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير من المدينة الشريفة، وأفسدوا أيضاً بني قريظة، وكانوا بالمدينة الشريفة وسيدهم كعب بن أسد، فكان الجميع اثني عشر الفاً، وكانوا واثقين في زعمهم بأنهم لا يرجعون وقد بقي للإسلام باقية، ولا يكون لأحد من أهله منهم واقية.
ولما كان مجيء الجنود مرهباً، سبب عنه عوده إلى مظهر العظمة فقال: {فأرسلنا} أي تسبب عن ذلك أنا لما رأينا عجزكم عن مقابلتهم ومقاومتهم في مقاتلتهم ألهمناكم عمل الخندق ليمنعهم من سهولة الوصول إليكم، ثم لما طال مقامهم أرسلنا بما لنا من العظمة {عليهم} أي خاصة {ريحاً} وهي ربح الصبا، فأطفأت نيرانهم.
وأكفأت قدورهم وجفانهم، وسفت التراب في وجوههم، ورمتهم بالحجارة وهدت خيامهم، وأوهنت ببردها عظامهم، وأجالت خيلهم {وجنوداً لم تروها} يصح أن تكون الرؤية بصرية وقلبية، منها من البشر نعيم بن مسعود الغطفاني رضي الله عنه هداه الله للإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه لم يعلم أحد بإسلامي، فمرني يا رسول الله بأمرك! فقال: «إنما أنت فينا رجل واحد والحرب خدعة، فخذل عنا مهما استطعت» فأخلف بين اليهود وبين العرب بأن قال لليهود وكانوا أصحابه: إن هؤلاء- يعني العرب- إن رأوا فرصة انتهزوها وإلا انشمروا إلى بلادهم راجعين. وليس حالكم كحالهم، البلد بلدكم وبه أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم ليكونوا عندكم حتى تناجزوا الرجل، فإنه ليس لكم بعد طاقة إذا انفرد بكم، فقالوا: أشرت بالرأي، فقال: فاكتموا عني، وقال لقريش: قد علمتم صحبتي لكم وفراقي لمحمد، وقد سمعت أمراً ما أظن أنكم تتهمونني فيه، فقالوا: ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، قال: إن اليهود قد ندموا على نقض ما بينهم وبين محمد وأرسلوا إليه: إنا قد ندمنا فهل ينفعنا عندك أن نأخذ لك من القوم جماعة من أشرافهم تضرب أعناقهم، ونكون معك على بقيتهم، حتى تفرغ منهم لتكف عنا. وتعيد لنا الأمان، قال: نعم، فإن أرسلوا إليكم فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً، ثم أتى غطفان فقال: إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إليّ، قالوا: صدقت، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش واستكتمهم، فأرسلت إليهم قريظة يطلبون منهم رهناً فقالوا: صدق نعيم، وأبوا أن يدفعوا إليهم أحداً، فقالت قريظة: صدق نعيم، فتخاذلوا واختلفت كلمتهم، فانكسرت شوكتهم، وبردت حدتهم، ومنها من الملائكة جبرائيل عليه السلام ومن أراد الله منهم- على جميعهم أفضل الصلاة والسلام، والتحية والإكرام، فكبروا في نواحي عسكرهم، وزلزلوا بهم، وبثوا الرعب في قلوبهم، فماجت خيولهم، واضمحل قالهم وقيلهم، فكان في ذلك رحيلهم، بعد نحو أربعين يوماً أو بضع وعشرين- على ما قيل.
ولما أجمل سبحانه القصة على طولها في بعض هذه الآية، فصلها فقال ذاكراً الاسم الأعظم إشارة إلى أن ما وقع فيها كان معتنى به اعتناء من بذل جميع الجهد وإن كان الكل عليه سبحانه يسيراً: {وكان الله} الذي له جميع صفات الكمال والجلال والجمال {بما يعملون} أي الأحزاب من التحزب والتجمع والتألب والمكر والقصد السيئ- على قراءة البصري، وأنتم أيها المسلمون من حفر الخندق وغيره من الصدق في الإيمان وغيره- على قراءة الباقين {بصيراً} بالغ الإبصار والعلم، فدبر في هذه الحرب ما كان المسلمون به الأعلين ولم ينفع أهل الشرك قوتهم، ولا أغنت عنهم كثرتهم، ولا ضر المؤمنين قلتهم، وجعلنا ذلك سبباً لإغنائهم بأموال بني قريظة ونسائهم وأبنائهم وشفاء لأدواتهم بإراقة دمائهم- كما سيأتي؛ ثم ذكرهم الشدة التي حصلت بتمالئهم فقال مبدلاً من {إذ} الأولى: {إذ جاؤوكم} أي الجنود المذكورون بادئاً بالأقرب إليهم، لأن الأقرب أبصر بالعورة وأخبر بالمضرة.
ولما كان من المعلوم أنهم لم يطبقوا ما علا وما سفل، أدخل أداة التبعيض فقال: {من فوقكم} يعني بني قريظة وأسد وغطفان من ناحية مصب السيول من المشرق، وأضاف الفوق إلى ضميرهم لأن العيال كانوا في الآكام، وهي بين بني قريظة وبين من في الخندق، فصاروا فوق العيال والرجال.
ولما كان المراد الفوقية من جهة علو الأرض، أوضحها بقوله: {ومن أسفل منكم} دون أن يقول: أسفلكم، وأفاد ذلك أيضاً من في أسفل إنما أحاطوا ببعض جهة الرجال فقط، ولم يقل ومن تحتكم لئلا يظن أنه فوق الرؤوس وتحت الأرجل، ولم يقل في الأول من أعلى منكم لئلا يكون فيه وصف للكفرة بالعلو، وأسفل الأرض المدينة من ناحية المغرب يعني قريشاً، ومن لافّها من كنانة فإن طريقهم من تلك الجهة.
ولما ذكرهم بالمجيء الذي هو سبب الخوف، ذكرهم بالخوف بذكر ظرفه أيضاً مفخماً لأمره بالغطف فقال: {وإذ} أي واذكروا حين، وأنث الفعل وما عطف عليه لأن التذكير الذي يدور معناه على القوة والعلو والصلابة ينافي الزيغ فقال: {زاغت الأبصار} أي مالت عن سداد القصد فعل الواله الجزع بما حصل من الغفلة الناشئة عن الدهشة الحاصلة من الرعب، وقطع ذلك عن الإضافة إلى كاف الخطاب إبقاء عليهم وتعليماً للأدب في المخاطبة، وكذا {وبلغت القلوب} كناية عن شدة الرعب والخفقان، ويجوز- وهو الأقرب- أن يكون ذلك حقيقة بجذب الطحال والرئة لها عند ذلك بانتفاخهما إلى أعلى الصدر، ومنه قولهم للجبان: انتفخ منخره أي رئته {الحناجر} جمع حنجرة، وهي منتهى الحلقوم، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه: «شر ما في الإنسان جبن خالع» أي يخلع القلب من مكانه، وجمع الكثرة إشارة إلى أن ذلك عمهم أو كاد.
ولما كانت هذه حالة عرضت، ثم كان من أمرها أنها إما زالت وثبتت إلى انقضاء الأمر، عبر عنها بالماضي لذلك وتحقيقاً لها ولما نشأ عنها تقلب القلوب وتجدد ذهاب الأفكار كل مذهب، عبر بالمضارع الدال على دوام التجدد فقال: {وتظنون بالله} الذي له صفات الكمال فلا يلم نقص ما بساحة عظمته، ولا يدنو شيء من شين إلى جناب عزته {الظنونا} أي أنواع الظن إما بالنسبة إلى الأشخاص فواضح، وذلك بحسب قوة الإيمان وضعفه، وأما بالنسبة إلى الشخص الواحد فحسب تغير الأحوال، فتارة يظن الهلاك للضعف، وتارة النجاة لأن الله قادر على ذلك، ويظن المنافقون ومن قاربهم من ضعفاء القلوب ما حكى الله عنهم؛ قال الرازي في اللوامع: ويروى أن المسلمين قالوا: بلغت القلوب الحناجر، فهل من شيء نقول؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا» وزيادة الألف في قراءة من أثبتها في الحالين وهم المدنيان وابن عامر وشعبة إشارة إلى اتساع هذه الأفكار، وتشعب تلك الخواطر، وعند من أثبتها في الوقت دون الوصل وهم ابن كثير والكسائي وحفص إشارة إلى اختلاف الحال تارة بالقوة وتارة بالضعف.


ولما كانت الشدة في الحقيقة إنما هي للثابت لأنه ما عنده إلا الهلاك أو النصرة، وأما المنافق فيلقي السلم ويدخل داره الذل بالموافقة على جميع ما يراد منه، ترجم حال المؤمنين قاصراً الخطاب على الرأس لئلا يدخل في مضمون الخبر إعلاماً بأن منصبه الشريف أجلّ من أن يبتلى فقال تعالى: {هنالك} أي في ذلك الوقت العظيم البعيد الرتبة {ابتلي المؤمنون} أي خولط الراسخون في الإيمان بما شأنه أن يحيل ما خالطه ويميله، وبناه للمجهول لما كان المقصود إنما هو معرفة المخلص من غيره، مع لعلم بأن فاعل ذلك هو الذي له الأمر كله، ولم يؤكد الابتلاء بالشدة لدلالة الافتعال عليها، وصرف الكلام عن الخطاب مع ما تقدم من فوائده، وعبر بالوصف ليخص الراسخين فقال: {وزلزلوا} أي حركوا ودفعوا وأقلقوا وأزعجوا بما يرون من الأهوال بتظافر الأعداء مع الكثرة، وتطاير الأراجيف {زلزالاً شديداً} فثبتوا بتثبيت الله لهم على عهدهم.
ولما علم بهذا أن الحال المزلزل لهم كان في غاية الهول، أشار إلى أنهم لم يزلزلهم بأن حكى أقوال المزلزلين، ولم يذكر أقوالهم وسيذكرها بعد ليكون الثناء عليهم بالثبات مع عظيم الزلزال مذكوراً مرتين إشارة وعبارة، فقال: {وإذ} وأشار إلى تكريرهم لدليل النفاق بالمضارع فقال: {يقول} أي مرة بعد أخرى {المنافقون} أي الراسخون في النفاق، لأن قلوبهم مريضة ملائ مرضاً {والذين في قلوبهم مرض} أي من أمراض الاعتقاد بحيث أضعفها في الاعتقاد والثبات في مواطن اللقاء وفي كل معنى جليل، فهم بحيث لم يصلوا إلى الجزم بالنفاق ولا الإخلاص في الإيمان، بل هم على حرف فعندهم نوع النفاق، فالآية من الاحتباك: ذكر النفاق أولاً دال عليه ثانياً، وذكر المرض ثانياً دليل عليه أولاً، وهذا الذي قلته في القلوب موافق لما ذكره الإمام السهروردي في الباب السادس والخمسين من عوارفه عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهو، فذلك قلب المؤمن، وقلب أسود منكوس، فذلك قلب الكافر، وقلب مربوط على غلاف، فذلك قلب المنافق، وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد، فأيّ المدتين غلبت عليه حكم له بها» وروى هذا الحديث الغزالي في أواخر كتاب قواعد العقائد من الإحياء عن أبي سعيد الخدري، وقال الشيخ زين الدين العراقي: أخرجه أحمد.
ولما كان المكذب لهم بتصديق وعد الله- ولله الحمد- كثيراً، أكدوا قولهم وذكروا الاسم الأعظم وأضافوا الرسول إليه فقالوا: {ما وعدنا الله} الذي ذكر لنا أنه محيط الجلال والجمال {ورسوله} أي الذي قال من قال من قومنا: إنه رسول، استهزاء منهم، وإقامة للدليل في زعمهم لهذا البلاء على بطلان تلك الدعوى {إلا غروراً} أي باطلاً استدرجنا به إلى الانسلاخ عما كنا عليه من دين آبائنا وإلى الثبات على ما صرنا إليه بعد ذلك الانسلاخ بما وعدنا به من ظهور هذا الدين على الدين كله، والتمكين في البلاد حتى في حفر الخندق، فإنه قال: إنه أبصر بما برق له في ضربه لصخرة سلمان مدينة صنعاء من اليمن وقصور وكسرى بالحيرة من أرض فارس، وقصور الشام من أرض الروم، وإن تابعيه سيظهرون على ذلك كله وقد صدق الله وعده في جميع ذلك حتى في لبس سراقة بن مالك ابن جعشم سوارى كسرى بن هرمز كما هو مذكور مستوفى في دلائل النبوة للبيهقي، وكذبوا في شكهم.
ففاز المصدقون، وخاب الذين هم في ريبهم يترددون.
ولما ذكر ما هو الأصل في نفاقهم وهو التكذيب، أتبعه ما تفرع عليه، ولما كان تخذيلهم بالترجيع مرة، عبر عنه بالماضي فقال: {وإذ قالت} أنث الفعل إشارة إلى رخاوتهم وتأنثهم في الأقوال والأفعال {طائفة منهم} أي قوم كثير من موتى القلوب ومرضاها يطوف بعضهم ببعض: {يا أهل يثرب} عدلوا عن الاسم- الذي وسمها به النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة وطيبة مع حسنه- إلى الاسم الذي كانت تدعى به قديماً مع احتمال قبحه باشتقاقه من الثرب الذي هو اللوم والتعنيف إظهاراً للعدول عن الإسلام قال في الجمع بين العباب والمحكم: ثرب عليه ثرباً وأثرب، بمعنى ثرب تثريباً- إذا لامه وعيّره بذنبه وذكره به. وأكدوا بنفي الجنس لكثرة مخالفتهم في ذلك فقالوا: {لا مقام لكم} أي قياماً أو موضع قيام تقومون به- على قراءة الجماعة بالفتح، وعلى قراءة حفص بالضم المعنى: لا إقامة أو موضع إقامة في مكان القتال ومقارعة الأبطال {فارجعوا} إلى منازلكم هراباً، وكونوا مع نسائكم أذناباً، أو إلى دينكم الأول على وجه المصارحة لتكون لكم عند هذه الجنود يد.
ولما ذكر هؤلاء الذين هتكوا الستر، وبينوا ما هم فيه من سفول الأمر، أتبعهم آخرين تستروا بعض التستر تمسكاً بأذيال النفاق، خوفاً من أهوال الشقاق، فقال: {ويستأذن} أي يجدد كل وقت طلب الإذن لأجل الرجوع إلى البيوت والكون مع النساء {فريق منهم} أي طائفة شأنها الفرقة {النبي} وقد رأوا ما حواه من علو المقدار بما له من حسن الخلق، والخلق، وما لديه من جلاله الشمائل وكريم الخصائل، ولم يخشوا من إنبائنا له بالأخبار، وإظهارنا له الخبء، من مكنون الضمائر وخفي الأسرار، حال كونهم {يقولون} أي في كل قليل، مؤكدين لعلمهم بكذبهم وتكذيب المؤمنين لهم قولهم: {إن بيوتنا} أتوا بجمع الكثرة إشارة إلى كثرة أصحابهم المنافقين {عورة} أي بها خلل كثير يمكن من أراد من الأحزاب أن يدخلها منه، فإذا ذهبنا إليها حفظناها منهم وكفينا من يأتي إلينا من مفسديهم حماية للدين، وذباً عن الأهلين.
ولما قالوا ذلك مؤكدين له، رده الله تعالى موكداً لرده مبيناً لما أرادوا فقال: {وما} أي والحال أنها ما {هي} في ذلك الوقت الذي قالوا هذا فيه، وأكد النفي فقال: {بعورة} ولا يريدون بذهابهم حمايتها {إن} أي ما {يريدون} باستئذانهم {إلا فراراً} ولما كانت عنايتهم مشتدة بملازمة دورهم. فأظهروا اشتداد العناية بحمايتها زوراً بين الله ذلك ودل عليه بالإسناد إلى الدور تنبيهاً على أنها ربة الحماية والعمدة فقال: {ولو دخلت} أي بيوتهم من أيّ داخل كان من هؤلاء الأحزاب أو غيرهم، وأنث الفعل نصاً على المراد وإشارة إلى أن ما ينسب إليهم جدير بالضعف، وعبر بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم} إشارة إلى أنه دخول غلبة {من أقطارها} أي جوانبها كلها بحيث لا يكون لهم مكان للهرب.
ولما كان قصد الفرار مع الإحاطة بالدار، من جميع الأقطار، دون الاستقتال للدفع عن الأهل والمال، بعيداً عن أفعال الرجال؛ عبر بأداة التراخي فقال: {ثم سئلوا} أي من أيّ سائل كان {الفتنة} أي الخروج منها فارّين، وكأنه سماه بها لأنه لما كان أشد الفتنة من حيث أنه لا يخرج الإنسان من بيته إلا الموت أو ما يقاربه كان كأنه لا فتنة سواه {لأتوها} أي الفتنة بالخروج فراراً، إجابة لسؤال من سألهم مع غلبة الظن بالدخول على صفة الإحاطة أن لا نجاة، فهم أبداً يعولون على الفرار من غير قتال حماية لذمار او دفعاً لعار، أو ذباً عن أهل أو جار، وهذا المعنى ينتظم قراءة أهل الحجاز بالقصر وغيرهم بالمد، فإن من أجاب إلى الفرار فقد أعطى ما كأنه كان في يده منه غلبة وجبناً وقد جأءه وفعله.
ولما كان هذا عند العرب- مع ما لهم من النجدة والخوف من السبة- لا يكاد يصدق، أشار إلى ذلك بتأكيده في زيادة تصويره فقال: {وما تلبثوا بها} أي البيوت {إلا يسيراً} فصح بهذا أنهم لا يقصدون إلا الفرار، لا حفظ البيوت من المضار، ويدلك على هذا المعنى إتباعه بقوله مؤكداً لأجل ما لهم من الإنكار والحلف بالكذب: {ولقد كانوا} أي هؤلاء الذين أسرعوا الإجابة إلى الفرار مع الدخول عليهم على تلك الصفة من سبي حريمهم واجتياح بيضتهم {عاهدوا الله} أي الذي لا أجلّ منه.
ولما كان العهد ربما طال زمنه فنسي، فكان ذلك عذراً لصاحبه، بين قرب زمنه بعد بيان عظمة المعاهد اللازم منه ذكره، فقال مثبتاً الجار: {من قبل} أي قبل هذه الحالة وهذه الغزوة حين أعجبتهم المواعيد الصادقة بالفتوحات التي سموها الآن عندما جد الجد مما هي مشروطة به من الجهاد غروراً {لا يولّون} أي يقربون عدوهم {الأدبار} أي أدبارهم أبداً لشيء من الأشياء، ولا يكون لهم عمل إذا حمى الياس، وتخالط الناس، واحمرت الحدق وتداعس الرجال، وتعانق الحماة الأبطال إلى الظفر أو الموت.
ولما كان الإنسان قد يتهاون بالعهد لإعراض المعاهد عنه قال: {وكان عهد الله} أي الوفاء بعهد من هو محيط بصفات الكمال. ولما كان العهد فضلة في الكلام لكونه مفعولاً، واشتدت العناية به هنا، بين ذلك بتقديمه أولاً ثم يجعله العمدة، وإسناد الفعل إليه ثانياً فقال: {مسؤولاً} أي في أن يوفي به ذلك الذي وقع منه.


ولما أتم سبحانه ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم كما دل عليه التعبير بالنبي، استأنف أمره بجوابهم جواباً لمن كأنه قال: ماذا يقال لهم؟ وإجراءً للنصحية على لسانه لما هو مجبول عليه من الشفقة، {قل} أي لهم، وأكد لظنهم نفع الفرار: {لن ينفعكم} أي في تأخير آجالكم في وقت من الأوقات {الفرار} أي الذي ما كان استئذانكم إلا بسببه {إن فررتم من الموت} أي بغير عدو {أو القتل} لأن الأجل إن كان قد حضر، لم يتأخر بالفرار وإلا لم يقصره الثبات كما كان علي رضي الله عنه يقول: إذا دهم الأمر، وتوقد الجمر، واشتد من الحرب الحر، أيّ يومي من الموت أفر؟ يوم لا يقدر أو يوم قدر، وذلك أن أجل الله الذي أجله محيط بالإنسان لا يقدر أن يتعداه أصلاً {وإذا} أي وإذ فررتم.
ولما كانوا لا يقصدون بالعيش إلا التمتع، بين ذلك بالبناء للمجهول فقال: {لا تمتعون} أي تمتعاً مبالغاً فيه كما تريدون بما بقي من أعماركم إن كان بقي منها شيء {إلا قليلاً} بل يتمكن العدو منكم بأدباركم، ومن أموالكم وأحسابكم ودياركم، فيفسد مهما قدر عليه من ذلك فلا تقدرون على تداركه إلا بعد زمان طويل وتعب كبير، بخلاف ما إذا ثبتم وفاء بالعهد وحفظاً للثناء فلاقيتم الأقرن، وقارعتم الفرسان، اعتماداً على ربكم وطاعة لنبيكم، فإن كان الأجل قد أتى لم ينقصكم ذلك شيئاً، ومتم أعزة كراماً، وإلا فزتم بالنصر، وحزتم الأجر، وعشتم بأتم نعمة إلى تمام العمر، فالثبات أبقى للمهج، وأحفظ للعيش البهج.
ولما كانوا لما عندهم من التقيد بالوهم، والدوران مع الحس دأب البهم، جديرين بأن يقولوا: بلى ينفعنا لأنا طالما رأينا من هرب فسلم، ومن ثبت فاصطلم، أمره بالجواب عن هذا بقوله: {قل} أي لهم منكراً عليهم: {من ذا الذي يعصمكم} أي يمنعكم {من الله} المحيط بكل شيء قدرة وعلماً قبل الفرار وفي حال الفرار وبعده {إن أراد بكم سوءاً} فأناخ بكم نقمه فيرد ذلك السوء عنكم {أو} يهينكم ويقبح جانبكم ويمتهنه بأن يصيبكم بسوء إن {أراد بكم رحمة} فأفادكم نعمه، والرحمة النفع سماه بها لأنه أثرها، قيسوا هذا المعنى على مقاييس عقولكم معتبرين له بما وجدتم من الشقين في جميع أعماركم، هل احترزتم عن سوء إرادة فنفعكم الاحتراز، أو اجتهد غيره في منعكم رحمة منه فتم له أمره أو أوقع الله بكم شيئاً من ذلك فقدر أحد مع بذل الجهد على كشفه بدون إذنه؟ ويمكن أن تكون الآية من الاحتباك: ذكر السوء أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً، وذكر الرحمة ثانياً دليلاً على حذف ضدها أولاً.
ولما كانوا أجمد الناس، أشار سبحانه بكونهم لم يبادروهم بأنفسهم الجواب بما يدل على المناب إلى جمودهم بالعطف على ما علم أن تقديره جواباً من كل ذي بصيرة: لا يعصمهم أحد من دونه من شيء من ذلك، ولا يصيبهم بشيء منه، فقال: {ولا يجدون} أي في وقت من الأوقات {لهم} ونبه على أنه لا شيء إلا وهو في مثبتاً الجار: {من دون الله} وعبر بالاسم العلم إشارة إلى إحاطته بكل وصف جميل، فمن أين يكون لغيره الإلمام بشيء منها إلا بإذنه {ولياً} يواليهم فينفعهم بنوع نفع {ولا نصيراً} ينصرهم من أمره فيرد ما أراده من السوء عنهم.
ولما أخبرهم سبحانه بما علم مما أوقعوه من أسرارهم، وأمره صلى الله عليه وسلم بوعظهم، حذرهم بدوام علمه لمن يخون منهم، فقال محققاً مقرباً من الماضي ومؤذناً بدوام هذا الوصف له: {قد يعلم} ولعله عبر ب {قد} التي ربما أفهمت في هذه العبارة التقليل، إشارة إلى أنه يكفي من له أدنى عقل في الخوف من سطوة المتهدد احتمال علمه، وعبر بالاسم الأعظم فقال: {الله} إشارة إلى إحاطة الجلال والجمال {المعوقين} أي المثبطين تثبيط تكرية وعقوق، يسرعون فيه إسراع الواقع بغير اختياره {منكم} أي أيها الذين أقروا بالإيمان للناس قاطبة عن إتيان حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم {والقائلين لإخوانهم هلم} أي ائتوا وأقبلوا {إلينا} موهمين أن ناحيتهم مما يقام فيه القتال، ويواظب على صالح الأعمال {ولا} أي والحال أنهم لا {يأتون البأس} أي الحرب أو مكانها {إلا قليلاً} للرياء والسمعة بقدر ما يراهم المخلصون، فإذا اشتغلوا بالمعاركة وكفى كل منهم ما إليه تسللوا عنهم لواذاً، وعاذوا بمن لا ينفعهم من الخلق عياذاً.
ولما كانوا يوجهون لكل من أفعالهم هذه وجهاً صالحاً، بين فساد قصدهم بقوله ذاماً غاية الذم بالتعبير الشح الذي هو التناهي في البخل، فهو بخل بما في اليد وأمر للغيب بالبخل فهو بخل إلى بخل خبيث قذر متمادى فيه مسارع إليه {أشحة} أي يفعلون ما تقدم والحال أن كلاً منهم شحيح {عليكم} أي بحصول نفع منهم أو من غيرهم بنفس أو مال.
ولما كان التقدير: في حال الأمن، أتبعه بيان حالهم في الخوف فقال: {فإذا جاء الخوف} أي لمجيء أسبابه من الحرب ومقدماتها {رأيتهم} أي أيها المخاطب {وينظرون} وبين بعدهم حساً ومعنى بحرف الغاية فقال: {إليك} أي حال كونهم {تدور} يميناً وشمالاً بإدارة الطرف {أعينهم} أي زائغة رعباً وخوراً، تم شبهها في سرعة تقلبها لغير قصد صحيح فقال: {كالذي} أي كدوران عين الذي، وبين شدة العناية بتصوير ذلك بجعل المفعول عمدة ببناء الفعل له فقال: {يغشى عليه} مبتدئاً غشيانه {من الموت} سنة الله في أن كل من عامل الناس بالخداع، كان قليل الثبات عند القراع؛ ثم ذكر خاصة أخرى لبيان جبنهم فقال: {فإذا ذهب الخوف} أي بذهاب أسبابه {سلقوكم} أي تناولوكم تناولاً صعباً جرأة ووقاحة، ناسين ما وقع منهم عن قرب من الجبن والخور {بألسنة حداد} ذربة قاطعة فصيحة بعد أن كانت عند الخوف في غاية اللجلجة لا تقدر على الحركة من قلة الريق ويبس الشفاه، وهذا لطلب العرض الفاني من الغنيمة أو غيرها؛ ثم بين المراد بقوله: {أشحة} أي شحاً مستعلياً {على الخير} أي المال الذي عندهم، وفي اعتقادهم أنه لا خير غيره، شحاً لا يريدون أن يصل شيء منه إليكم ولا يفوتهم شيء منه، وهذه سنة أخرى في أن من كان صلباً في الرخاء كان رخواً حال الشدة وعند اللقاء، وإنما فسرت الشح بهذا لأن مادته بترتيبها تدور على الجمع الذي انتهى فأشرف على الفساد، من الحشيش والمحشة، وهي الدبر، فهو جمع يتبعه في الأغلب نكد وأذى، ومن لوازم مطلق الجمع القوة فتتبعها الصلابة، فربما نشأت القساوة، وربما نشأت عن الجمع الفرقة فلزمها الرخاوة، فمن الجمع النكد الشح وهو البخل والحرص، وشح النفس حرصها على ما ملكت، قال القزاز: وجمع الشحيح في أقل العدد أشحة، ولم أسمع غيره، وحكى أبو يوسف: أشحاء- بالمد في الكثير، والرجلان يتشاحان عن الأمر- إذا كان كل منهما يريد أن لا يفوته، وزند شحاح: لا يورى، وماء شحاح: نكد غير غمر- لأنه اشتد اجتماعه في مكانه، واشتدت أرضه باجتماع أجزائها فصلبت جداً فضنت به.
وأرض شحاح: صلبة، قال القزاز: وبه شبه الزند، والشحشاح: الحاد والسيئ الخلق والماضي في كلام أو سير، والمواظب على الشيء، لأن ذلك من لوازم الحدة الناشئة عن القوة الناشئة عن الجمع، ومن هنا قيل للخطيب البليغ والشجاع والغيور: شحشح وشحشاح، والشحشح من الغربان: الكثير الصوت، ومن الحمير: الخفيف، ومن القطا: السريعة، والشحشاح: الطويل- كأنه جمع طولين، وشحشح البعير في الهدير- إذا لم يخلصه، كأنه جمع إلى الهدير ما ليس بهدير، والشحشحة: صوت الصرد- لكثرة اتصالها، فهي ترجع إلى الحدة التي ترجع إلى القوة الناشئة عن الجمع، وترديد البعير في الهدير والطيران السريع والحذر، فإنه يدل على اجتماع القلب وثقوب الذهن، وامرأة شحشاح- كأنه رجل في قوتها، والمشحشح- كالمسلسل: القليل الخير، وإبل شحائح: قليلة الدر، وذلك من الجمع والصلابة الناشئة عن القساوة والنكد، والشحيح من الأرض ما يسيل من أدنى مطر، لصلابتها وشدة اجتماع بعضها إلى بعض، والشحشح أيضاً من الأرض ما لا يسيل إلا من مطر كثير ضد الأول، وذلك ناظر إلى جمعها للنظر لغوره فيها لما في أجزائها من التفرق الذي تقدم أنه من لوازم الجمع، ومن مطلق الجمع: الفلاة الواسعة- لأنها جامعة لما يراد جمعه، والشحاح: شعاب صغار تدفع الماء إلى الوادي، فهي بمدها جامعة، وبكونها صغاراً نكدة ومجتمعة في نفسها، ومن الجمع: الحشيش، وهو اليابس من العشب، وأصله ما جمع منه.
والمحش: الموضع الكثير الحشيش والخير، لأن الجمع ربما نشأ عنه رفق، وكثرة الحشيش يلزمها الرفق بعلفه للدواب، ويكون أرضه طيبة، ومن حش الحشيش: قطعه، وفلاناً: أصلح من حاله، والمال: كثره، وزيداً بعيراً أو ببعير: أعطاه إياه، والحش- بالفتح: المخرج، والمحشة: الدبر، والحش: البستان ذو النخل المجتمع، سمى الخلاء به لأن العرب كانت تقضي الحاجة فيه، وحش طلحة وحش كوكب: موضعان بالمدينة، وحش الولد في البطن: يبس، وأحشت المرأة فهي محش- إذا يبس الولد في جوفها، والحش- بالضم: الولد الهالك في البطن، وحششت الفرس: جمعت له الحشيش، وأحششت الرجل: أعنته على جمع الحشيش، والحشاش: الجوالق فيه الحشيش، وأحش الكلأ: أمكن لأن يُحَش، والمستحشة من النوق التي دقت أوظفتها، أي ما فوق رسغها إلى ساقها، وذلك من من عظمها وكثرة شحمها، واستحش الغصن: طال- كأنه جمع طولين، أو صار بحيث يجمع ورقاً كثيراً، الشيء بالشيء، وحش الودي من النخل: يبس، ومن الجمع: حش الصيد: جمعه من جانبيه، والفرس: ألقى له حشيشاً، قال القزاز: وهو يبس الكلأ، وأصله ما جمع، ومنه: أحشك وتروثني- يضرب لمن أساء إلى من أحسن إليه، ومرت الإبل تحش الأرض. أي تجمع الحشيش، وقيل: هو من سرعة مرها، وفيه مع كثرة الجمع للخطى بتقاربها معنى الحدة، ومنه حش الفرس: أسرع، ومن الإشراف على الفساد: الحش- بالفتح وهو النخل الناقص القصير ليس بمسقي ولا معمور، والحشاشة: رمق النفس، يقال: ما بقي من فلان إلا حشاشة أي رمق يسير يحيي به، وعبارة القاموس، والحشاش والحشاشة، بقية الروح في المريض والجريح فهذا بين في الإشراف على الفساد كما تقدم وهو أيضاً من الفرقة التي قد تلزم الجمع ومنه تحشحشوا أي تفرقوا، ومنه قلة الاستحشاش، وهو قلة القوم، ومن الحدة الناشئة عن القوة الناشئة: عن الجمع حششت النار أي أوقدتها وجمعت الحطب إليها، وكل ما قوي بشيء فقد حش به، والمحش: حديدة يوقد بها النار أي تحرك، والشجاع، قال القزاز، وهو محش حرب- إذا كان يسعرها بشجاعته، وحش فلان الحرب- إذا هيجها، ومنه تحشحشوا أي تحركوا، ومن مطلق الحدة: أحششته عن حاجته: أعجلته عنها، ومن الجمع والقوة: حش سهمه بالقذذ- إذا راشه فألزقها من نواحيه، وحشاشاك أن تفعل كذا أي قصاراك أي نهاية جمعك لكل ما تقوى به، وحشاشا كل شيء: جانباه، والحشة- بالضم: القبة العظيمة، لكثرة جمعها وقوة تراصّها.
ولما وصفهم سبحانه بهذه الدنايا.
أخبر بأن أساسها وأصلها الذي نشأت عنه عدم الوثوق بالله لعدم الإيمان فقال: {أولئك} أي البغضاء البعداء الذين محط أمرهم الدنيا {ولم يؤمنوا} أي لم يوجد منهم إيمان بقلوبهم وإن أقرت به ألسنتهم.
ولما كان العمل لا يصح بدون الإيمان، سبب عن ذلك قوله: {فأحبط الله} أي بجلاله وتفرده في كبريائه وكماله {أعمالهم} أي أبطل أرواحها، فصارت أجساداً لا أرواح لها، فلا نفع لهم بشيء منها لأنها كانت في الدنيا صوراً مجردة عن الأرواح التي هي القصود الصالحة، فإنهم لا قصد لهم بها إلا التوصل إلى الأعراض الدنيوية، وهذا إعلام بأن من كانت الدنيا أكبر همه فهو غير مؤمن، وأنه يكون خواراً عند الهزاهز، ميالاً إلى دنايا الشجايا والغرائز.
ولما كان من عمل عملاً لم يقدر غيره وإن كان أعظم منه أن يبطل نفعه به إلا بسعر شديد، قال تعالى: {وكان ذلك} أي الإحباط العظيم مع ما لهم من الجرأة في الطلب والإلحاف عند السؤال وقلة الأدب {على الله} بما له من صفات العظمة التي تخشع لها الأصوات، وتخرس الألسن الذربات {يسيراً} لأنه لا نفع إلا منه وهو الواحد القهار، وأما غيره فإنما عسر عليه ذلك، لأن النفع من غيره- وإن كان منه حقيقة- قهره غيره بالشفاعات ووجود النكد أو غيرها عليه، وكأنهم لما ذهب استمرو خاضعين لم يطلقوا ألسنتهم ولا أعلو كلمتهم، فأخبر تعالى تحقيقاً لقوله الماضي في جبنهم أن المانع الذي ذكره لم يزل من عندهم لفرط جبنهم، فقال تحقيقاً لذلك وجواباً لمن ربما قال: قد ذهب الخوف فما لهم ما سلقوا؟: {يحسبون} أي يظنون لضعف عقولهم في هذا الحال، وقد ذهب الخوف، لشدة جبنهم وما رسخ عندهم من الخوف {الأحزاب} وقد علمتم أنهم ذهبوا {لم يذهبوا} بل غابوا خداعاً، وعبر بالحسبان لأنه- كما مضى عن الحرالي في البقرة- ما تقع غلبته فيما هو من نوع ما فطر الإنسان عليه واستقر عادة له، والظن فيما هو من المعلوم المأخوذ بالدليل والعلم، قال: فكان ضعف علم العالم ظن، وضعف عقل العاقل حسبان.
ولما أخبر عن حالهم في ذهابهم، أخبر عن حالهم لو وقع ما يتخوفونه من رجوعهم، فقال معبراً بأداة الشك بشارة لأهل البصائر أنه في عداد المحال: {وإن يأتِ الأحزاب} أي بعد ما ذهبوا {يودّوا} أي يتجدد لهم غاية الرغبة من الجبن وشدة الخوف {لو أنهم بادون} أي فاعلون للبدو وهو الإقامة في البادية على حالة الحل والارتحال {في الأعراب} الذين هم عندهم في محل النقص، وممن تكره مخالطته ولو كان تمنيهم في ذلك الحين محالاً؛ ثم ذكر حال فاعل {بادون} فقال: {يسألون} كل وقت {عن أنبائكم} العظيمة معهم جرياً على ما هم عليه من النفاق ليبقوا لهم عندكم وجهاً، كأنهم مهتمون بكم، يظهرون بذلك تحرقاً على غيبتهم عن هذه الحرب أو ليخفوا غيبتهم ويظهروا أنهم كانوا بينكم في الحرب بأمارة أنه وقع لكم في وقت كذا أو مكان كذا كذا، ويكابروا على ذلك من غير استحياء لأن النفاق صار لهم خلقاً لا يقدرون على الانفكاك عنه، ويرشد إلى هذا المعنى قراءة يعقوب: {يسالون} بالتشديد {ولو} أي والحال أنهم لو {كانوا فيكم} أي حاضرين لحربهم {ما قاتلوا} أي معكم {إلا قليلاً} نفاقاً كما فعلوا قبل ذهاب الأحزاب من حضورهم معكم تارة واستئذانهم في الرجوع إلى منازلهم أخرى، والتعويق لغيرهم بالفعل كرة، والتصريح بالقول أخرى.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7